وكان زمن التيه

في الحادي عشر من شهر كانون الأول سنة ثمانية وأربعين صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (الدورة الثالثة) القرار الذي يحمل الرقم (194) والذي نصّ البند الثاني منه على: وجوب السماح بالعودة وفي أقرب وقت ممكن للاّجئين الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين لا يرغبون في العودة منهم، وعن كل مفقود أو مصاب بضرر...عندها يكون من الواجب وفقًا لمبادئ القانون والإنصاف أن تعوّض الحكومات والسلطات المسئولة عن ذلك الفقدان أو الضرر. لقد أقام اليهود دولتهم في فلسطين عام ثمانية وأربعين...وكان من شروط قبولها في عضوية هيئة الأمم المتحدة تنفيذها للقرار (194) والقرار (181) الصادر في 29/11/1947م حيث جاء في القرار الذي يحمل الرقم (273) والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/5/1949م: "آخذين بعين الاعتبار قبول إسرائيل بالالتزامات الناجمة عن ميثاق الأمم المتحدة، وبناءً على القرارين الصادرين في 29/11/1947م وفي 11/12/1948م، ونظرًا للبيانات والتفسيرات التي قدمها مندوب حكومة إسرائيل في اللجنة السياسية بشأن تنفيذ القرارين المذكورين فقد قررنا في الجمعية العامة قبول إسرائيل عضوًا في هيئة الأمم المتحدة"...ولكنّ إسرائيل لم تنفّذ شيئًا من هذا حتى اليوم. لقد رفض الإسرائيليون منذ تلك الأيام تنفيذ شيء مما نصت عليه القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين...بل إنَّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد حرصت على تصفية هذه القضية بشكل منهجي مدروس، وتحقيق المكاسب لإسرائيل في كل يوم...بل في كل ساعة محلِّيًّا وإقليميًّا وعربيًّا وإسلاميًّا وشرق أوسطيًّا ودَوْليًّا...وعلى كل الصعد والمستويات...وبمختلف الوسائل والأساليب. ولعل من الضروريّ والمفيد أيضًا أن يعلم الناس جميعًا في هذا العالم بعامة، وفي هذه المنطقة بخاصّة أن سائر القرارات التي اتخذها المجتمع الدولي بشأن فلسطين والفلسطينيين لم تُنكر حق هذا الشعب في وطنه، فقد أكدت تلك القرارات على الحق العربي البيِّن في فلسطين، وعلى حق العودة غير المنازَع للاّجئين والمهجّرين الفلسطينيين إلى ديارهم وبيوتهم التي أُجبروا على الخروج منها بقوة الحديد والنار ذات يوم!! ولا شــك في أن المجـال لا يتسع هنا للدخول في تفصيلات تلك القرارات...فهذا من شـأن الكتــب والمجلّدات ذات الاختصاص...ولكن لا بد من الإشارة السريعة العجلى إلى أقلّ القليل منها للذكرى، وللتاريخ، وللأجيال الحاضرة، والقادمة من رحم الغيب أيضًا...فالدورة الخامسة والعشرون للجمعية العامة مثلاً أقرّت بأن للشعب الفلسطيني كامل الحق في الحقوق المتساوية، وتقرير المصير...وأقرّت أيضًا بأن الاحترام التام لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة يشكّل عنصرًا ضروريًّا لإحلال السلام العادل في هذه المنطقة...وفي الفترة الزمنية الواقعة بين العامين 1948/ 1966 عُرضت قضية اللاجئين الفلسطينيين على جدول أعمال الأمم المتحدة ولجانها خمسًا وثلاثين مرة فقط!! وكانت الأمم المتحدة في كل مرة تؤكد على الحق المطلق لهؤلاء اللاجئين في العودة إلى ديارهم...كما كانت تؤكد باستمرار على أن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق بدون هذه العودة...نعم...هذا ما أكد عليه المجتمع الدولي منذ نشوء هذه القضية، فما الذي تغير؟ وما الذي يحدث؟ وما الذي يسمعه الناس بين الحين والآخر حول هذه القضية التي قال فيها المجتمع الدولي كلمته...وقالت فيها كل الشرائع والأعراف والقوانين كلمتها...وقال فيها أصحابها كلمتهم منذ أمد بعيد؟؟ وبعيدًا عن التحامل...وبكل الموضوعية لا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يشير في هذا السياق إلى أنّ اليهود ومنذ نشوء القضية الفلسطينية هم الذين كانوا ولا يزالون يرفضون الاعتراف بأي حق مهما كان ضئيلاً للعرب في فلسطين...فهم الذين خطّطوا منذ مئة عام للسيطرة على هذه الديار...وهم الذين نفّذوا القرار رقم (181) ولكن بطريقتهم إذ حصلوا على أكثر بكثير مما أعطاهم، ومنعوا غيرهم من إقامة دولتهم على الجزء الذي حدّده ذلك القرار...ولقد سجّل التاريخ أن العرب هم الذين رفضوا قرار التقسيم...وأنهم الذين يرفضون حل هذه القضية منذ نشوئها وحتى يومنا هذا. وبعيدًا عن التحامل أيضًا فإنه لا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يؤكد صراحة على أن اليهود هم الذين تنكّروا في حينه للقرار رقم (194) رافضين السماح لأي لاجئ أو مهجّر بالعودة...ولعلّ قضية مواطني إقرث وبرعم أكبر دليل على ذلك...حيث يرفض اليهود عودتهم إلى القريتين رغم أنهم يعيشون حولهما، ويدفنون موتاهم في مقبرتيهما...ورغم صدور قرار محكمة يهودية "هي محكمة العدل العليا" في العام ثلاثة وخمسين وتسعمئة وألف بعودة أولئك المهجَّرين إلى القريتين ...وعلى الرغم من أن بيوت القريتين ما زالت على حالها تنتظر عودة أصحابها الذين تراهم ويرونها رأي العين منذ أن أُخرجوا منها بقوة السلاح وحتى هذه الأيام!! إن كل ما يفعله هؤلاء منذ نشأة القضية في عام ثمانية وأربعين، وبعد احتلالهم ما كان قد تبقّى من فلسطين عام سبعة وستين هو الحصول على مكاسب جديدة، وإلحاق مزيد من الدمار بالعرب الفلسطينيين...وتجريدهم من كافة حقوقهم في هذه الديار...وتضييق الخناق عليهم يوميًّا إلى الحد الذي أحالوا حياتهم فيه جحيمًا لا يُطاق...والبقية تأتي بلغة الصحافة والصِّحافيين...لقد تنكّروا للقرار (194)، واليوم يطالبون بإلغائه رسميًًّا بعد أن أوجدوا البدائل...وهيّأوا الوسائل...في إطار تسوية مرحلية جائرة لا يمكن أن تصنع سلامًا...وإنما تؤسّس لصراع جديد لا يعلم أحد مقدار ما سيلحقه بهذه المنطقة وبغيرها من أضرار وويلات. يقول "أمنون كابيليوك" في مجلة الدراسات الفلسطينية في هذا السياق: إنّ منظمة الأرغون بزعامة مناحيم بيغن ومنظمة شتيرن كانتا تثيران الحرب من أجل هزيمة الفلسطينيين وطردهم من وطنهم، وإنّ معظم الفلسطينيين لم يشاركوا في الحرب بحسب ما أوضحه ديفيد بن غوريون في كتاب موشيه شاريت رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية والذي ينصّ على أنّ وصيّة بن غوريون لجيشه كانت: "عليكم أن تضربوا بقوّة، وبهدف تحطيم المدن العربية، وطرد سكانها منها حتى يتمكن شعبنا القادم أن يحل محلهم "وما أشبه الليلة بالبارحة مع فارق بسيط هو أنّ شعبنا الذي يتعرّض في هذه الأيام لحرب حقيقية، هو المتهم تارةً بالعنف، وطورًا بالإرهاب في حين يحظى المعتدون بالمؤازرة والتأييد، وربما بالتعاطف من هذا النفر أو تلك الفئة!!" ولا بد لاستكمال معالم صورة هذه الأحداث التاريخية من الإشارة السريعة إلى تلك الزيارات التي قام بها " همرشولد " إلى المنطقة في العام 1959 لمتابعة إيجاد حلّ لمشكلة اللاجئين حيث تبين له أنّ إسرائيل ترفض تطبيق قرار التقسيم رقم 181 والقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين؛ فاقترح "همرشولد" أن يتم توسيع برنامج التأهيل للاجئين من خلال وكالة الغوث، والعمل على توطين اللاجئين في العالم العربي!! وأخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى قضية اللاجئين بعد مؤتمر مدريد، حيث أقرّ مؤتمر موسكو المنعقد في العام 1991 بعد هذا المؤتمر تشكيل خمس لجان في إطار المفاوضات متعددة الأطراف، ومن ضمنها لجنة شؤون اللاجئين حيث اجتمعت هذه اللجنة مرتين في أوتاوا عام 1992، ومرّة في أوسلو عام 1993، ورابعة في تونس عام 1993، وكانت الخامسة في تركيا عام 1994. لقد أكّد مندوب المجموعة الأوروبية في أوتاوا على ضرورة عدم نسيان الأهداف السياسية التي يجب تحقيقها، حيث أنّ مشكلة اللاجئين هي سياسية في جوهرها، ويجب أن لا يتم بحثها في فراغ سياسي لكي نتمكّن من تحقيق سلام عالمي، وذلك بالاحترام الكامل للقوانين الدولية التي تضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما طالب ممثّل الوفد الفلسطيني في اجتماعات أوتاوا بتطبيق القرار 194، وفي اجتماعات أوسلو طالب بتطبيق القرارين 194 و 181 بمعنى أن ممثّل الوفد الفلسطيني طالب بعودة اللاجئين وقيام الدولة العربية في فلسطين بموجب قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 بحسب تقرير وزارة الإعلام الفلسطينية / المكتب "الصحفي" المنشور بتاريخ 25/3/1996. ولعل من الضروري هنا أن يشار إلى ما تراه الغالبية الساحقة من الناس في هذه الديار، وهو أنّ قضية اللاجئين الفلسطينيين هي قضية الأرض والإنسان الفلسطيني، لأنها باختصار تعني ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، وأربعة أخماس الأرض الفلسطينية، وهي تخص الشعب الفلسطيني لأنها أساس صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، وبدون إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين لن يكون هناك أمن أو سلام أو مصالحة تاريخية في هذه المنطقة، لأنّ أي تجمع فلسطيني من تجمعات اللاجئين الفلسطينيين سوف يعمد إلى تشكيل حزب سياسي وطني يتبنى الكفاح المسلح، ويستمر في النضال من أجل حق عودة الفلسطيني إلى أرضه ووطنه. ومن هنا فإن كل هذه الدعوات الفلسطينية التي تصدر من هنا وهناك لا تعبّر عن طموح الشعب من جهة، ولا تعبر عن واقعية الصراع من جهة أخرى، وعليه فإن على حكومات إسرائيل، وصنّاع قرارها السياسي أن يدركوا حقيقة أن لا أمن ولا سلام في هذه المنطقة على حساب قضية اللاجئين، وأنّ المشكلة هي في عقيدة إسرائيل، وليست في الشعب الفلسطيني الذي قبل بقرار 194 كأساس للحد الأدنى لحقوقه السياسية، والتي تعني هنا عودةً من دون إزالة دولة إسرائيل، بل عودة الفلسطينيين الفردية والجماعية إلى دولة إسرائيل التي أقيمت على أرض فلسطين، وهذا الأمر ممكن إذا نحن عرفنا أن 80% من الإسرائيليين يسكنون في أقل من 30% من أرض فلسطين، أي أن في البلاد متسعًا لاستيعاب المهجَّرين بموجب القرار 194... إن المواطن العادي في هذه الدّيار قد كره هذا النهج القائم على تقديم تنازلات جديدة في كل يوم، وهو يريد حقه كاملاً غير منقوص في وطنه، ويريد عودة كريمة إلى أرضه، وهو يؤمن بالسلام العادل المقنع المشرّف الذي لا يؤسس لصراع جديد لا يعلم أحد مدى آثاره المدمّرة، إنه يريد السلام الذي يصنع الحياة والمحبة والتقدم، ويبني جسور الثقة بين كل الناس في هذه المنطقة من العالم.. فهل هذا كثير؟؟. وبعد، فإن السلام العادل الدائم الشامل المقنع هو هدف شعوب هذه المنطقة.. وإن الطريق إلى هذا السلام يكون فقط بإعادة الحقوق إلى أصحابها.. وعلى رأس هذه الحقوق جميعًا حق العودة الذي نص عليه القرار (194) دون أدنى تحريف أو تغيير أو اجتهاد...لأنه "لا اجتهاد في مَوْرِدِ النَّصّ".. ولأنه لا يمكن لأي حل أن يعيش طويلاً إلا إذا كان عادلاً ومُقْنعًا.. ولأن تنفيذ القرار (194) بشأن اللاجئين الفلسطينيين هو الذي يؤسّس لسلام عادل في هذه المنطقة من العالم.. وتنفيذه فقط هو الذي ينهي دور وكالة الغوث الدولية في هذه المنطقة.. وبدون تنفيذ هذا القرار وعودة اللاجئين إلى ديارهم لا يمكن إنهاء عمل هذه الوكالة في هذه الديار، لأن المجتمع الدولي هو الذي كلف هذه الوكالة بالإشراف على أمور اللاجئين الفلسطينيين، وتوفير كافة ضروريات الحياة لهم إلى أن تحل قضيتهم ويعودوا إلى ديارهم... فهل حُلّت هذه القضية، وهل عاد اللاجئون والمهجَّرون إلى ديارهم كي نسمع بعض الأصوات التي تنادي اليوم بإنهاء عمل وكالة الغوث؟... لا... لم يعد أحد من هؤلاء إلى بيته.. بل إن الأحوال المزرية التي يعيشها الفلسطينيون في كل مكان، وبخاصة في هذه الديار تقضي بوقف هذا التقليص الزاحف على الخدمات التي تقدمها الوكالة لهؤلاء اللاجئين، والعودة بها إلى ما كانت عليه عندما كانت النكبة في ذروتها..فأحوال الغالبية الساحقة منهم بلغت حدًّا غير مسبوق من المعاناة والسوء. واليوم يعترف اليهود لأول مرة منذ قيام كيانهم على أرض فلسطين بالنكبة.. وهم يعتزمون تدريسها في سائر المدارس العربية واليهودية في كيانهم.. لقد اعترفوا لأول مرة بأن قيام كيانهم في فلسطين عام ثمانية وأربعين كان نكبةً لعرب فلسطين، بل للعرب والمسلمين كافة؛ فهل يكون هذا الاعتراف بداية صحوة شاملة تسفر عن إعادة الحقوق إلى أصحابها؟ وهل يكون هذا الاعتراف، وتدريس هذا الكتاب الذي يتحدثون عنه اليوم حولها في مدارسهم بدايةً لتصحيح شامل يضع النقاط جميعها على كل الحروف، ويسمح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم بتطبيق القرار 194؟
ليست هناك أي مشاركات.
ليست هناك أي مشاركات.